حياته
لا تُُعرف أصول علي بك الكبير على وجه الدقة واليقين، فهو مثل غيره من آلاف المماليك الذي يُشترون صغارا ويُجلبون إلى مصر حيث يعتنقون الإسلام، ويخضعون لتربية عسكرية صارمة، ويبدءون رحلتهم في الصعود إلى النفوذ والسيطرة.
ويذكر المؤرخ الأوربي ستافرو لانسبان وكان معاصرا لعلي بك الكبير وملاصقا له، أنه ابن قسيس رومي أرثوذكسي من قرية أماسيا في الأناضول، وأنه ولد في سنة (1140هـ = 1728م) ثم خطف في الثالثة عشرة من عمره، وبيع في القاهرة للأمير إبراهيم كتخدا، وبدأت معه رحلة التعليم والتدريب التي يمر بها المماليك.
وفي تلك المرحلة ظهرت ملامح شخصيته وكفاءته العسكرية، فتفوق على أقرانه في ركوب الخيل، والضرب بالسيف والطعن بالرمح، واستخدام الأسلحة النارية، وهو ما جعل سيده يعتقه وهو لم يتجاوز العشرين، وولاه بعض المهام الإدارية، وأصبح كاشفا (أميرا) سنة (1163هـ = 1749م) وله من العمر اثنان وعشرون عاما، ولما توفي أستاذه إبراهيم كتخدا سنة (1167هـ = 1754م) خلفه في مناصبه. شيخ البلد.
تطلع علي بك الكبير إلى منصب شيخ البلد، وكان شاغله هو صاحب الحول والقوة في مصر والحاكم الفعلي لها، ولم يكن الوصول إلى هذا المنصب سهلا ميسورا، بل كان دائما مفروشا بالصعاب والعقبات وممتلئا بالخصوم والمنافسين، فبدأ علي بك بشراء المماليك والإكثار منهم وتدريبهم على فنون الحرب والقتال، والاستعداد للساعة الحاسمة التي يفوز فيها بالمنصب الكبير، وجاءت هذه الساعة في سنة (1177هـ = 1763م)، حيث اعتلى كرسي مشيخة البلد بالقاهرة، لكنه لم ينجح في الاحتفاظ بمنصبه وأجبره خصومه على الفرار من القاهرة إلى الصعيد تارة وإلى الحجاز تارة وإلى الشام تارة أخرى.
ولم يثنه ذلك عن التطلع إلى منصب شيخ البلد مرة ثانية، فلم يقعد به اليأس عن العمل أو يشله عن التفكير، حتى استطاع العودة إلى منصبه الأثير سنة (1181هـ = 1767م) وهو أعظم قوة وأكثر عددا، ولما استتب له الأمر التفت إلى من بقي من خصومه فصادر أموالهم وقتل بعضهم أو نفاهم حتى خلا له الجو وبسط سيطرته على البلاد، ولم يسلم من هذه الإجراءات من قدموا له العون والمساعدة فبطش ببعضهم ونفاهم إلى خارج البلاد. اتسمت إجراءات علي بك الكبير مع خصومه بالقسوة حتى وصفه الجبرتي بأنه هو الذي ابتدع المصادرات وسلب الأموال من مبدأ ظهوره، واقتدى به غيره، وكان أداته في هذا الشأن عدد من أتباعه أشهرهم محمد بك أبو الدهب وأحمد الجزار. الانفراد بالحكم
قائمقام مصر
استغل علي بك الكبير فرصة انشغال الدولة العثمانية في حربها مع روسيا، ولم تكن نتائجها في صالح العثمانيين الذين منوا بخسائر فادحة، فاستصدر أمرا من الديوان بعزل الوالي العثماني، وتولى هو منصب القائمقام بدلا من الوالي المخلوع، وذلك في (غرة شعبان 1182هـ = 11 من ديسمبر 1768م).
وأتبع ذلك بمنعه قدوم الولاة الأتراك إلى القاهرة، فلم ترسل الدولة أحدا منهم على مدى أربع سنوات، كما أوقف إرسال الأموال المقررة سنويا على مصر إلى الدولة العثمانية ابتداء من سنة (1182هـ = 1768م).
وفي أثناء ذلك نجح في أن يسيطر على أحوال مصر، في الوجهين البحري والقبلي، وأن يقضي على الفتن هناك ويضرب بيد من حديد على الخارجين عليه في الشرقية والقليوبية والبحيرة، ثم قضى على نفوذ شيخ العرب همام بن يوسف الهواري زعيم الصعيد، وكان يلجأ إليه كثير من منافسي علي بك الكبير طالبين حمايته وإمدادهم بالمال والسلاح، ولم يلبث أن توفي شيخ العرب همام وزالت دولته من بلاد الصعيد كأن لم تكن، وخلصت مصر بوجهيها البحري والقبلي لعلي بك وأتباعه.
ضم بلاد الحرمين والشام
لم يكتف علي بك الكبير بأن بسط نفوذه وسلطانه على مصر، فرنا ببصره إلى خارجها وتطلع إلى ضم الحجاز لتأمين الحج للمصريين والمغاربة والشوام، وإحياء تجارة مصر مع الهند بالاستيلاء على ميناء جدة التجاري ذي الشهرة الواسعة، وجعله مستودعا وسطا لتجارة الهند والشرق الأقصى، فيعيد بذلك الثروة والغنى التي فقدتها مصر من جراء تحول تجارة الشرق إلى طريق الرجاء الصالح.
وانتهز علي بك فرصة النزاع الذي دار بين اثنين من أشراف الحجاز حول الحكم، فتدخل لصالح أحدهما وأرسل حملة عسكرية يقودها محمد بك أبو الدهب في (صفر 1184هـ = يونيو 1770م) إلى هناك فنجحت في مهمتها، ونودي بعلي بك الكبير في الحرمين الشريفين سلطان مصر وخاقان البحرين، وذكر اسمه ولقبه على منابر المساجد في الحجاز كلها.
وقد شجع نجاح حملة الحجاز علي بك الكبير على أن يتطلع إلى إرسال حملة إلى بلاد الشام منتهزا سوء أحوالها وتعدد طوائفها، واستنجاد صديقه والي عكا ظاهر العمر به الذي نجح في أن يمد نفوذه في جنوب سوريا، وكان هو الآخر يسعى إلى الاستقلال عن الدولة العثمانية.
وقبل أن يمضي علي بك في حملته على الشام اتصل بروسيا أعدى أعداء الدولة العثمانية، وعرض عليها أن يعقد معها معاهدة تحالف وصداقة، وأن تزوده بالأسلحة والعسكريين المدربين، وأن يكون الأسطول الروسي حاميا للشواطئ المصرية ضد أية محاولات هجومية من قبل الدولة العثمانية. وتمت هذه الاتصالات مع قائد الأسطول الروسي الذي كان مرابطا في البحر المتوسط، وقد رد القائد الروسي على هذه الطلبات التي طرحها علي بك ردا جميلا، ووعده بأنه سوف يرجع إلى حكومته وإلى الإمبراطورة كاترين بشأنها.
ولم يكد محمد أبو الدهب يعود بحملته الظافرة من الحجاز حتى سيره علي بك، على رأس جيش كبير يتألف من أكثر من أربعين ألف جندي ليزحف على الشام، وكان السبب الذي أعلنه علي بك من وراء حملته على الشام هو إيواء عثمان العظم والي الشام (دمشق) لخصوم علي بك وأعدائه وإعدادهم للإغارة على مصر، وأن هذا الوالي يسيء الحكم في بلاد الشام مما جعل السوريين يتذمرون من حكمه.
وقد كلفت هذه الحملة الخزانة المصرية أعباء مالية ضخمة، تحمل تكاليفها الشعب المصري الذي فرضت عليه ضرائب باهظة أثقلت كاهله، وأطلقت صرخاته المكتومة وأناته الحبيسة لتحقيق رغبات جامحة لولاة طامحين في بناء مجد زائف.